ما حقيقة النفس
هل هي جزء من أجزاء البدن أو عرض من أعراضه أو جسم
مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد وهل هي الروح أو غيرها وهل الإمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أم هي ثلاث أنفس
فالجواب أن هذه مسائل قد تكلم الناس فيها من سائر الطوائف واضطربت أقوالهم فيها وكثر فيها خطؤهم وهدى الله أتباع الرسول أهل سنته لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم فنذكر أقوال الناس وما لهم وما عليهم في تلك الأقوال ونذكر الصواب بحمد الله وعونه
قال أبو الحسن الأشعري في مقالاته اختلف الناس في الروح والنفس والحياة وهل الروح هي الحياة أو غيرها وهل الروح جسم أم لا فقال النظام الروح هي جسم وهي النفس وزعم أن الروح حي بنفسه وأنكر أن تكون الحياة والقوة معنى غير الحي القوي وقال آخرون الروح عرض
وقال قائلون منهم جعفر بن حرب لا ندري الروح جوهر أو عرض كذا قال واعتلوا في ذلك بقوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ولم يخبر عنها ما هي لا أنها جوهر ولا عرض قال وأظن جعفرا أثبت أن الحياة غير الروح أثبت أن الحياة عرضا
وكان الجبائي يذهب إلى أن الروح جسم وأنها غير الحياة والحياة عرض ويعتل بقول أهل اللغة خرجت روح الإنسان وزعم أن الروح لا تجوز عليها الأعراض
وقال قائلون ليس الروح شيئا أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ولم يرجعوا من قولهم اعتدال إلا إلى المعتدل ولم يثبتوا في الدنيا شيئا إلا الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
وقال قائلون أن الروح معنى خامس غير الطبائع الأربع وأنه ليس في الدنيا إلا الطبائع الأربع والروح واختلفوا في أعمال الروح فثبتها بعضهم طباعا وثبتها بعضهم اختيارا وقال قائلون الروح الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات وكذلك قالوا في القوة
وقال قائلون الحياة هي الحرارة الغريزية وكل هؤلاء الذين حكينا أقوالهم في الروح من أصحاب الطبائع يثبتون أن الحياة هي الروح
وكان الأصم لا يثبت للحياة والروح شيئا غير الجسد ويقول ليس أعقل إلا الجسد الطويل العريض العميق الذي أراه وأشاهده وكان يقول النفس هي هذا البدن بعينه لا غير وإنما جرى عليها هذا الذكر على جهة البيان والتأكيد بحقيقة الشيء لا على أنها معنى غير البدن
وذكر عن أرسططا ليس أن النفس معنى مرتفع عن الوقوع تحت التدبير والنشوء والبلى غير دائرة وأنها جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان على جهة الأعمال له والتدبير وأنه لا تجوز عليه صفة قلة ولا كثرة قال وهي على ما وصفت من انبساطها في هذا العالم غير منقسمة الذات والبنية وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير
وقال آخرون بل النفس معنى موجود ذات حدود وأركان وطول وعرض وعمق وأنها غير مفارقة في هذا العالم لغيرها مما يجري عليه حكم الطول والعرض والعمق وكل واحد منهما يجمعهما صفة الحد والنهاية وهذا قول طائفة من الثنوية يقال لهم المثانية
وقالت طائفة أن النفس موصوفة بما وصفها هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم من معنى
الحدود والنهايات إلا أنها غير مفارقة لغيرها مما لا يجوز أن يكون موصوفا بصفة الحيوان وهؤلاء الديصانية وحكى الحريري عن جعفر بن مبشر أن النفس جوهر ليس هو هذا الجسم وليس بجسم لكنه معنى بابن الجوهر والجسم
وقال آخرون النفس معنى غير الروح والروح غير الحياة والحياة عنده عرض وهو أبو الهذيل وزعم أنه قد يجوز أن يكون الإنسان في حال نومه مسلوب النفس والروح دون الحياة واستشهد على ذلك بقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
وقال جعفر بن حرب النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإنسان على الفعل كالصحة والسلامة وما أشبههما وأنها غير موصولة بشيء من صفات الجواهر والأجسام هذا ما حكاه الأشعري
وقالت طائفة النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس قالوا والروح عرض وهو الحياة فقط وهو غير النفس وهذا قول القاضي أبو بكر بن الباقلاني ومن اتبعه من الأشعرية
وقالت طائفة ليست النفس جسما ولا عرضا وليست النفس في مكان ولا لها طول ولا عرض ولا عمق ولا لون ولا بعض ولا هي في العالم ولا خارجه ولا مجانبة له ولا مباينة وهذا قول المشائين وهو الذي حكاه الأشعري عن ارسططا ليس وزعموا أن تعلقها بالبدن لا بالحلول فيه ولا بالمجاورة ولا بالمساكنة ولا بالالتصاق ولا بالمقابلة وإنما هو التدبير له فقط واختار هذا المذهب البسنجي ومحمد بن النعمان الملقب بالمفيد ومعمر بن عباد الغزالي وهو قول ابن سينا وأتباعه وهو أردى المذاهب وأبطلها وأبعدها من الصواب
قال أبو محمد بن حزم وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرة بالمعاد إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان جثة متحيزة مصرفة للجسد قال وبهذا نقول قال والنفس والروح اسمان مترادفان لمعنى واحد ومعناهما واحد
وقد ضبط أبو عبد الله بن الخطيب مذاهب الناس في النفس فقال ما يشير إليه كل إنسان بقوله إنا إما أن نكون جسما أو عرضا ساريا في الجسم أو لا جسما ولا عرضا ساريا فيه أما القسم الأول وهو أنه جسم فذلك الجسم إما أن يكون هذا البدن وإما أن يكون جسما مشاركا لهذا البدن وإما أن يكون خارجا عنه وأما القسم الثالث وهو أن نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن فهذا لم يقله أحد وأما القسم الأول وهو أن الإنسان عبارة عن هذا البدن والهيكل المخصوص فهو قول جمهور الخلق وهو المختار عند أكثر المتكلمين
قلت هو قول جمهور الخلق الذين عرف الرازي أقوالهم من أهل البدع وغيرهم من المضلين وأما أقوال الصحابة والتابعين وأهل الحديث فلم يكن له بها شعور البتة ولا أعتقد أن لهم في ذلك قولا على عادته في حكاية المذاهب الباطلة في المسألة والمذهب الحق الذي دل عليه القرآن والسنة وأقوال الصحابة لم يعرفه ولم يذكره وهذا الذي نسبه إلى جمهور الخلق من أن الإنسان هو هذا البدن المخصوص فقط وليس وراءه شيء هو من ابطل الأقوال في المسألة بل هو أبطل من قول ابن سينا وأتباعه بل الذي عليه جمهور العقلاء أن الإنسان هو البدن والروح معا وقد يطلق اسمه على أحدهما دون الآخر بقرينة
فالناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان هل هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما أو كل واحد منهما وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه هل هو اللفظ فقط أو المعنى فقط أو مجموعهما أو كل واحد منهما فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه
قال الرازي وأما القسم الثاني وهو أن الإنسان عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن فالقائلون بهذا القول اختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه
الأول أنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي منها يتولد هذا البدن
والثاني انه الدم
والثالث أنه الروح اللطيف الذي يتولد في الجانب الأيسر من القلب وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء
والرابع أنه الروح الذي يصعد في القلب إلى الدماغ ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ والفكرة والذكر
والخامس أنه جزء لا يتجزأ في القلب
والسادس أنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نور أنى علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية
وإذا فسدت هذه الأعضاء بسب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح
وهذا القول هو الصواب في المسألة هو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة ونحن نسوق الأدلة عليه على نسق واحد
الدليل الأول قوله تعالى الله يتوفي الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى نفي الآية ثلاثة أدلة الأخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها
الرابع قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون إلى قوله تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة
وفيها أربعة أدلة
أحدها بسط الملائكة أيديهم لتناولها !
الثاني وصفها بالإخراج والخروج
الثالث الإخبار عن عذابها في ذلك اليوم
الرابع الإخبار عن مجيئها إلى ربها فهذه سبعة أدلة
الثامن قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى ثم إليه مرجعكم إلى قوله تعالى حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون وفيها ثلاثة أدلة
أحدها الإخبار بتوفي الأنفس بالليل
الثاني بعثها إلى أجسادها بالنهار
الثالث توفي الملائكة له عند الموت فهذه عشرة أدلة
الحادي عشر قوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فأدخلي في عبادي وادخلي جنتي وفيها ثلاثة أدلة
أحدها وصفها بالرجوع
الثاني وصفها بالدخول
الثالث وصفها بالرضا
واختلف السلف هل يقال لها ذلك عند الموت أو عند البعث أو في الموضعين على ثلاثة أقوال وقد روى في حديث مرفوع أن النبي قال لأبي بكر الصديق أما أن الملك سيقولها لك عند الموت قال زيد بن أسلم بشرت بالجنة عند الموت ويوم الجمع وعند البعث وقال أبو صالح ارجعي إلى ربك راضية مرضية هذا عند الموت فأدخلي عبادي وادخلي جنتي قال هذا يوم القيامة فهذه أربعة عشر دليلا
الخامس عشر قوله إن الروح إذا قبض تبعه البصر ففيه دليلان
أحدهما وصفه بأنه يقبض
الثاني أن البصر يراه
السابع عشر ما رواه النسائي حدثنا أبو داود عن عفان عن حماد عن أبى جعفر عن عمارة بن خزيمة أن أباه قال رأيت في المنام كأني أسجد على جبهة النبي فأخبرته بذلك فقال إن الروح ليلقى الروح فأقنع رسول الله هكذا قال عفان برأسه إلى حلقه فوضع جبهته على جبهة النبي فأخبر أن الأرواح تتلاقى في المنام وقد تقدم قول ابن عباس تلتقي أرواح الأحياء والأموات في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى
الثامن عشر قوله في حديث بلال إن الله قبض أرواحكم وردها إليكم حين شاء ففيه دليلان وصفها بالقبض والرد
العشرون قوله نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة وفيه دليلان
أحدهما كونها طائرا
الثاني تعلقها في شجر الجنة وأكلها على اختلاف التفسيرين
الثاني والعشرون قوله أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث
شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فأطلع إليهم ربك اطلاعة فقال أي شيء تريدون الحديث وقد تقدم وفيه ستة أدلة
أحدها كونها مودعة في جوف طير
الثاني أنها تسرح في الجنة
الثالث أنها تأكل من ثمارها وتشرب من أنهارها
الرابع أنها تأوي إلى تلك القناديل أي تسكن إليها
الخامس أن الرب تعالى خاطبها واستنطقها فأجابته وخاطبته
السادس أنها طلبت الرجوع إلى الدنيا فعلم أنها مما يقبل الرجوع فإن قيل هذا كله صفه الطير لا صفة الروح قيل بل الروح المودعة في الطير قصد وعلى الرواية التي رجحها أبو عمر وهي قوله أرواح الشهداء كطير ينفي السؤال بالكلية
التاسع والعشرون قوله في حديث طلحة بن عبيد الله أردت مالي بالغابة فأدركني الليل فأويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حزام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت أحسن منها فقال رسول الله ذاك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم فجعلها في قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت وفيه أربعة أدلة سوى ما تقدم
أحدها جعلها في القناديل
الثاني انتقالها من حيز إلى حيز
الثالث تكلمها وقراءتها في القبر
الرابع وصفها بأنها في مكان
الثالث والثلاثون حديث البراء بن عازب وقد تقدم سياقه وفيه عشرون دليلا
أحدها قول ملك الموت لنفسه يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وهذا الخطاب لمن يفهم ويعقل
الثاني قوله اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان
الثالث قوله فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء
الرابع قوله فلا يدعونها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه
الخامس قوله حتى يكفنوها في ذلك الكفن ويحنطوها بذلك الحنوط فأخبر أنه تكفن وتحنط
السادس قوله ثم يصعد بروحه إلى السماء
السابع قوله ويوجد منها كأطيب نفحة مسك وجدت
الثامن قوله فتفتح له أبواب السماء
التاسع قوله ويشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهي إلى الرب تعالى
العاشر قوله فيقول تعالى ردوا عبدي إلى الأرض
الحادي عشر قوله فترد روحه في جسده
الثاني عشر قوله في روح الكافر فتفرق في جسده فيجذبها فتنقطع منها العروق والعصب
الثالث عشر قوله ويوجد لروحه كأنتن ريح وجدت على وجه الأرض
الرابع عشر قوله فيقذف بروحه عن السماء وتطرح طرحا فتهوى إلى الأرض
الخامس عشر قوله فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب وما هذا الروح الخبيث
السادس عشر قوله فيجلسان ويقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل فإن كان هذا للروح فظاهر وإن كان للبدن فهو بعد رجوع الروح إليه من السماء
السابع عشر قوله فإذا صعد بروحه قيل أي رب عبدك فلان
الثامن عشر قوله أرجعوه فأروه ماذا أعددت له من الكرامة فيرى مقعده من الجنة أو النار
التاسع عشر قوله في الحديث إذا خرجت روح المؤمن صلى عليها كل ملك لله بين السماء والأرض فالملائكة تصلى على روحه وبني آدم يصلون على جسده
العشرون قوله فينظر إلى مقعده من الجنة أو النار حتى تقوم الساعة والبدن قد تمزق وتلاشى وإنما الذي يرى المقعدين الروح
فصل الرابع والخمسون حديث أبي موسى تخرج نفس المؤمن أطيب من ريح المسك
فتنطلق بها الملائكة الذين يتوفونه فتلقاهم ملائكة من دون السماء فيقولون هذا فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت بمحاسن عمله فيقولون مرحبا بكم وبه فيقبضونها منهم فيصعد به من الباب الذي كان يصعد منه عمله فيشرق في السموات وهو كبرهان الشمس حتى ينتهي بها إلى العرش وأما الكافر فإذا قبض انطلق بروحه فيقولون من هذا فيقولون فلان ابن فلان كان يعمل كيت وكيت لمساوي أعماله فيقولون لا مرحبا لا مرحبا ردوه فيرد إلى أسفل الأرض إلى الثرى ففيه عشرة أدلة
أحدها خروج نفسه
الثاني طيب ريحها
الثالث انطلاق الملائكة بها
الرابع تحية الملائكة لها
الخامس قبضهم لها
السادس صعودهم بها
السابع إشراق السموات لضوئها
الثامن انتهاؤها إلى العرش
التاسع قول الملائكة من هذا وهذا سؤال عن عين وذات قائمة بنفسها
العاشر قوله ردوه إلى أسفل الأرضين
فصل الرابع والستون حديث أبي هريرة إذا خرجت روح المؤمن تلقاه ملكان فيصعدانه إلى السماء فيقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه وذكر المسك ثم يصعد به إلى ربه عز و جل فيقول ردوه إلى آخر الأجلين ففيه ستة أدلة
أحدها قوله تلقاه ملكان
الثاني قوله فيصعدانه إلى السماء
الثالث قول الملائكة روح طيبة جاءت من قبل الأرض
الرابع صلاتهم عليها
الخامس طيب ريحها
السادس الصعود بها إلى الله عز و جل
فصل الحادي والسبعون حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المؤمن تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج فيعرج بها حتى ينتهي بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقال فلان ابن فلان فيقال مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشرى بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز و جل وإذا كان الرجل السوء قال أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث أخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا يزال يقال لها حتى تخرج فينتهي بها إلى السماء فيقال من هذا فيقال فلان ابن فلان فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء فترسل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر وهو حديث صحيح وفيه عشرة أدلة
أحدها قوله كانت في الجسد الطيب وكانت في الجسد الخبيث فها هنا حال ومحل
الثاني قوله أخرجي حميدة
الثالث قوله وأبشري بروح وريحان فهذا بشارة بما تصير إليه بعد خروجها
الرابع قوله فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء
الخامس قوله فيستفتح لها
السادس قوله أدخلي حميدة
السابع قوله حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله تعالى
الثامن قوله لنفس الفاجر ارجعي ذميمة
التاسع فإنه لا تفتح لك أبواب السماء
العاشر قوله فترسل إلى الأرض ثم تصير إلى القبر
فصل الحادي والثمانون قوله الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فوصفها بأنها جنود مجندة والجنود ذوات قائمة بنفسها ووصفها بالتعارف والتناكر ومحال أن تكون هذه الجنود أعراضا أو تكون لا داخل العالم ولا خارجه ولا بعض لها ولا كل
الثاني والثمانون قوله في حديث ابن مسعود رضي الله عنه على الأرواح تتلاقى وتتشامم كما تشام الخيل وقد تقدم
الثالث والثمانون قوله في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن أرواح المؤمنين تتلاقى على مسيرة يومين وما رأي أحدهما صاحبه
الرابع والثمانون الآثار التي ذكرناها في خلق آدم وأن الروح لما دخل في رأسه عطس فقال الحمد لله فلما وصل الروح إلى عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما وصل إلى جوفه اشتهي الطعام فوثب قبل أن يبلغ الروح رجليه وأنها دخلت كارهة وتخرج كارهة وتخرج كارهة
الخامس والثمانون الآثار التي فيها إخراج الرب تعالى النسم وتمييز شقيهم من سعيدهم وتفاوتهم حينئذ في الإشراق والظلمة وأرواح الأنبياء فيهم مثل السرج وقد تقدم
السادس والثمانون حديث تميم الداري أن روح المؤمن إذا صعد بها إلى الله خر ساجدا بين يديه وأن الملائكة تتلقى الروح بالبشرى وأن الله تعالى يقول الملك الموت انطلق بروح عبدى فضعه في مكان كذا وكذا وقد تقدم
السابع والثمانون الآثار التي ذكرناها في مستقر الأرواح بعد الموت واختلاف الناس في ذلك وفي ضمن ذلك الاختلاف إجماع السلف على أن للروح مستقرا بعد الموت وإن اختلف في تعيينه
الثامن والثمانون ما قد علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وأخبر به الأمة أنه تنبت أجسادهم في القبور فإذا نفخ في الصور رجعت كل روح إلى جسدها فدخلت فيه فانشقت الأرض عنه فقام من قبره
وفي حديث الصور أن إسرافيل عليه السلام يدعو الأرواح فتأتيه جميعا أرواح المسلمين نورا والأخرى مظلمة فيجمعها جميعا فيعلقها في الصور ثم ينفخ فيه فيقول الرب جل جلاله وعزتي ليرجعن كل روح إلى جسده فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين
السماء والأرض فيأتي كل روح إلى جسده فيدخل ويأمر الله الأرض فتنشق عنهم فيخرجون سراعا إلى ربهم ينسلون مهطعين إلى الداعي يسمعون المنادي من مكان قريب فإذا هم قيام ينظرون
وهذا معلوم بالضرورة أن الرسول أخبر به وإن الله سبحانه لا ينشىء لهم أرواحا غير أرواحهم التي كانت في الدنيا بل هي الأرواح التي اكتسبت الخير والشر أنشأ أبدانها نشأة أخرى ثم ردها إليها
التاسع والثمانون أن الروح والجسد يختصمان بين يدي الرب عز و جل يوم القيامة قال علي بن عبد العزيز حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبى سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد فيقول الروح يا رب إنما كنت روحا منك جعلتني في هذا الجسد فلا ذنب لي ويقول الجسد يا رب كنت جسدا خلقتني ودخل في هذا الروح مثل النار فيه كنت أقوم وبه كنت أقعد وبه أذهب وبه أجىء لا ذنب لي قال فيقال أنا أقضي بينكما أخبراني عن أعمى ومقعد دخلا حائطا فقال المقعد للأعمى إني أرى ثمرا فلو كانت لي رجلان لتناولت فقال الأعمى أنا أحملك على رقبتي فحمله فتناول من الثمر فأكلا جميعا فعلى من الذنب قالا عليهما جميعا فقال قضيتما على أنفسكما
التسعون الأحاديث والآثار الدالة على عذاب القبر ونعيمه إلى يوم البعث فمعلوم أن الجسد تلاشى واضمحل وأن العذاب والنعيم المستمرين إلى يوم القيامة إنما هو على الروح
الحادي والتسعون أخبار الصادق المصدوق في الحديث الصحيح عن الشهداء إنهم لما سئلوا ما تريدون قالوا نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل فيك مرة أخرى فهذا سؤال وجواب من ذات حية عالمة ناطقة تقبل الرد إلى الدنيا والدخول في أجساد خرجت منها وهذه الأرواح سئلت وهي تسرح في الجنة والأجساد قد مزقها البلى
الثاني والتسعون ما ثبت عن سلمان الفارسي وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أن أرواح المؤمنين في برزخ تذهب حيث شاءت وأرواح الكفار في سجين وقد تقدم
الثالث والتسعون رؤية النبي لأرواح الناس عن يمين آدم ويساره ليلة الإسراء فرآها متحيزة بمكان معين
الرابع والتسعون رؤيته أرواح الأنبياء في السموات وسلامهم عليه وترحيبهم به كما أخبر به وأما أبدانهم ففي الأرض
الخامس والتسعون رؤيته أرواح الأطفال حول إبراهيم الخليل عليه السلام
السادس والتسعون رؤيته أرواح المعذبين في البرزخ بأنواع العذاب في حديث سمرة الذي رواه البخاري في صحيحه وقد تلاشت أجسادهم واضمحلت وإنما كان الذي رآه أرواحهم ونسمهم يفعل بها ذلك
السابع والتسعون أخباره سبحانه عن الذين قتلوا في سبيله أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم فرحون مستبشرين بإخوانهم وهذا للأرواح قطعا لأن الأبدان في التراب تنظر عود أرواحهم إليها يوم البعث
الثامن والتسعون ما تقدم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ونحن نسوقه ليتبين كم فيه من دليل على بطلان قول الملاحدة وأهل البدع في الروح وقد ذكرنا إسناده فيما تقدم قال بينما رسول الله ذات يوم قاعدا تلا هذه الآية ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت الآية ثم قال والذي نفس محمد بيده ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار فإذا كان عند ذلك صف له سماطان من الملائكة ينتظمان ما بين الخافقين كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما يرى غيرهم وإن كنتم ترون أنه ينظر إليكم مع كل ملك منهم أكفان وحنوط فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة وقالوا أخرجي أيتها النفس المطمئنة إلى رضوان الله وجنته فقد أعد الله لك من الكرامة ما هو خير لك من الدنيا وما فيها فلا يزالون يبشرونه فهم ألطف به وأرأف من الوالدة بولدها ثم يسلون روحه من تحت كل ظفر ومفصل يموت الأول فالأول ويبرد كل عضو الأول فالأول ويهون عليهم وإن كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حين يخرج من الرحم فيبتدرونها كل ملك منهم أيهم يقبضها فيتولى قبضها ملك ثم تلا رسول الله قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون فيتلقاها بأكفان بيض ثم يحتضنها إليه فلهو أشد لزوما من المرأة لولدها ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك فيستنشقون ريحا طيبا ويتباشرون بها ويقولون مرحبا بالريح الطيبة والروح الطيب اللهم صل عليه روحا وصل على جسد خرجت منه قال فيصعدون بها فتفوح لهم ريح أطيب من المسك فيصلون عليها ويتباشرون بها وتفتح لهم أبواب السماء ويصلى عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم حتى تنتهي بين يدي الجبار جل جلاله فيقول الجبار عز و جل مرحبا بالنفس الطيبة ادخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم ثم اذهبوا بها إلى الأرض فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد وتقول أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه فيقولون إنا مأمورون بهذا فلا بد لك منه فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه فيدخلون ذلك الروح بين الجسد وأكفانه فتأمل كم في الحديث من موضع يشهد ببطلان قول المبطلين في الروح
التاسع والتسعون ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن ابن البيلماني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إذا توفي المؤمن بعث إليه ملكان بريحان من الجنة وخرقة تقبض فيها فتخرج كأطيب رائحة وجدها أحد قط بأنفه حتى يؤتى به الرحمن جل جلاله فتسجد الملائكة قبله ويسجد بعدهم ثم يدعى ميكائيل عليه السلام فيقال اذهب بهذه النفس فإجلعها مع أنفس المؤمنين حتى أسألك عنها يوم القيامة
وقد تظاهرت الآثار عن الصحابة أن روح المؤمن تسجد بين يدي العرش في وفاة النوم ووفاة الموت وأما حين قدومها على الله فأحسن تحيتها أن تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام
وحدثني القاضي نور الدين بن الصائغ قال كانت لي خالة وكانت من الصالحات العابدات قال عدتها في مرض موتها فقالت لي الروح إذا قدمت على الله ووقفت بين يديه ما تكون تحيتها وقولها له قال فعظمت على مسألتها وفكرت فيها ثم قلت تقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام قال فلما توفيت رأيتها في المنام فقالت لي جزاك الله خيرا لقد دهشت فما أدري ما أقوله ثم ذكرت تلك الكلمة التي قلت لي فقلتها
فصل المائة ما قد اشترك في العلم به عامة أهل الأرض من لقاء أرواح الموتى وسؤالهم لهم وإخبارهم إياهم بأمور خفيت عليهم فرأوها عيانا وهذا أكثر من أن يتكلف إيراده
وأعجب من هذا الوجه الحادي والمائة أن روح النائم يحصل لها في المنام آثار فتصبح يراها على البدن عيانا وهي من تأثير للروح في الروح كما ذكر القيراوني في كتاب البستان
قال كان لي جار يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان ذات يوم أكثر من شتمهما فتناولته وتناولي فأنصرفت إلى منزلي وأنا مغموم حزين فنمت وتركت العشاء فرأيت رسول الله في المنام فقلت يا رسول الله فلان يسب أصحابك قال من أصحابي قلت أبو بكر وعمر فقال خذ هذه المدية فأذبحه بها فأخذتها فأضجعته وذبحته ورأيت كأن يدي أصابها من دمه فألقيت المدية وأهويت بيدي إلى الأرض لأمسحها فأنتبهت وأنا أسمع الصراخ من نحو داره فقلت ما هذا الصراخ قالوا فلان مات فجأة فلما أصحنا جئت فنظرت إليه فإذا خط موضع الذبح
وفي كتاب المنامات لابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش قال رأيت رجلا بالشام قد أسود نصف وجهه وهو يغطيه فسألته عن ذلك فقال قد جعلت لله على أن لا يسألني أحد عن ذلك إلا أخبرته به كنت شديد الوقيعة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني آت في منامي فقال لي أنت صاحب الوقيعة في فضرب شق وجهي فأصبحت وشق وجهي أسود كما ترى
وذكر مسعدة عن هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة قالت كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتتها امرأة مشتملة على يدها فجعل النساء يولعن بها فقالت ما أتيتك إلا من أجل يدي أن أبي كان رجلا سمحا وأني رأيت في المنام حياضا عليها رجال معهم آنية يسقون من أتاهم فرأيت أبي قلت أين أمي فقال انظري فنظرت فإذا أمي ليس عليها إلا قطعة خرقة فقال أنها لم تتصدق قط إلا بتلك الخرقة وحمة من بقرة ذبحوها فتلك الشحمة تذاب وتطرى بها وهي تقول وأعطشاه قالت فأخذت إناء من الآنية فسقيتها فنوديت من فوقي من سقاها أيبس الله يده فأصبحت يدي كما ترين